سورة آل عمران - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


قلت: يحتمل أن يكون قوله: {أن يؤتى}: مفعولاً ب {تؤمنوا}، و{قل إن الهدى هدى الله}: اعترض، واللام في {لمن} صلة، {أو يحاجوكم}: عطف على {يؤتى}، والتقدير: ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، إلا من كان على دينكم، ولا تصدقوا أن يحاجوكم عند ربكم، بل أنتم تحاجون غيركم. فردَّ الله عليهم {قل إن الهدى هدى الله}، و{إن الفضل بيد الله}. ويحتمل أن يكون قوله: {أن يؤتى} مفعولاً لأجله، والعامل فيه محذوف، التقدير: أدبَّرتم ما دبرتم كراهية أن يؤتى أحد ما أوتيتم، ومخافة أن يحاجوكم عند ربكم؟.
يقول الحقّ جلّ جلاله: حاكياً عن اليهود: {و} قالوا {لا تؤمنوا} أي: لا تقروا أو تصدقوا {أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم} من العلم والحكمة وفلق البحر وسائر الفضائل، {إلا لمن تبع} دين اليهودية، وكان على {دينكم}، ولا تؤمنوا أن {يحاجوكم عند ربكم}؛ لأنكم أصح ديناً منهم. قال الحقّ جلّ جلاله: {قل} لهم: {إن الهدى هدى الله} يهدي به من يشاء، و{إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: وقالوا: لا تصدقوا ولا تذعنوا {إلا لمن تبع دينكم} وكان من جلدتكم، فإن النبوة خاصة بكم. فكذبهم الحق بقوله: {قل إن الهدى هدى الله}، يخص به من يشاء من عباده، فكيف تحصرنها فيكم؟ لأجل {أن يُؤْتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم} قلتم ما قلتم، ودبرتم ما دبرتم، حسداً وبغياً، {أو} خوفاً أن {يحاجوكم عند ربكم}، يغلبوكم بالحجة لظهور دينهم، {قل} يا محمد: {إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء}؛ فلا ينفع في رده حيلة ولا خدع.
أو يقول الحقّ جلّ جلاله: للمؤمنين، تثبيتاً لهم وتشجيعاً لقلوبهم: ولا تصدقوا يا معشر المؤمنين أن يعطي أحد مثل ما أوتيتم من الفضل والدين القويم إلا من تبع دينكم الحق، وجاء به من عند الحق، ولا تصدقوا {أن يحاجوكم} في دينكم {عند ربكم} أو يقدر أحد على ذلك، فإن الهدى هدى الله والفضل بيد الله، {يؤتيه من يشاء والله واسع} الفضل والكرم، {عليم} بمن يستحق الخصوصية والفضل، {يختص برحمته من يشاء} كالنبوة وغيرها، {والله ذو الفضل العظيم}؛ لا حصر لفضله، كما لا حصر لذاته.
الإشارة: يقول الحق- جلت ذاته، وعظمت قدرته- لأهل الخصوصية: ولا تقروا بالخصوصية إلا لمن كان على دينكم وطريقكم، وتزيّاً بزيكم، وبذل نفسه وفلسه في صحبتكم، مخافة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الخصوصية، وهو ليس أهلاً لها، فيأخذها علماً، فإما أن يتزندق أو يتفسق، أو يحاجوكم بالشريعة فيريق دماءكم؛ كما وقع للحلاج رضي الله عنه وفي ذلك يقول الشاعر:
ومن شَهِدَ الحَقِيقَةَ فَلْيَصُنْهَا *** وَإِلاَّ سَوْفَ يُقْتلُ بالسَّنَانِ
كَحَلاَّجِ الْمَحَبَّةِ إِذْ تَبَدَّتْ *** لَهُ شَمْسُ الْحَقِيقَةِ بالتَّدَاني
وقال آخر:
بالسِّرِّ إنْ بَاحُوا تُبَاحُ دِمَاؤُهُمْ *** وكَذَا دِماءُ البَائِحينَ تُبَاحُ
وقل أيها العارف، لمن طلب الخصوية قبل شروطها أو أنكر وجودها عند أهل شرطها: إن الهدى هدى الله يهدي به من يشاء- والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والرحمة- التي هي الخصوصية- في قبضة الله، يخص بها من يشاء، {والله ذو الفضل العظيم}؛ فمن أراد الخصوصية فليطلبها من معدنها، وهم العارفون بها، فيبذل نفسه وفلسه لهم حتى يُعرفوه بها. وبالله التوفيق.


قلت: الباء في {بقنطار}، بمعنى على، و{يؤده}: جواب الشرط مجزوم بحذف الياء، ومن قرأ بإسكان الضمير فلأنه أقامه مقام المحذوف، فجزمه عوضاً عنه، وقال الفراء: مذهب بعض العرب: يسكنون الهاء إذا تحرك ما قبلها، يقولون: ضربته ضرباً شديداً.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ومن أهل الكتاب} من أسلم وآمن فصار من أهل الإيمان {إن تأمنه} على {قنطار} من المال أو أكثر أداه إليك، ولم يخن منه شيئاً. وفي الحديث: «من ائتمن على أمانة فأداها، ولو شاء لم يؤدها، زوجه الله من الحور العين ما شاء» {ومنهم} من بقي على دينه من أهل الخيانة والخسران، {إن تأمنه} على {دينار} فأقل {لم يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً} على رأسه، مبالغاً في مطالبته. نزلت في عبد الله بن سلام، استودعه قرشي ألفاً ومائتي أوقية ذهباً، فأداها إليه، وفي فنحاص بن عازوراء اليهودي، استودعه قرشي آخر ديناراً، فجحده. وقيل: في النصارى واليهود، فإن النصارى: الغالب عليهم الأمانة، واليهود الغالب عليهم الخيانة.
وذلك الاستحلال بسبب أنهم {قالوا ليس علينا في الأميين سبيل} أي: ليس علينا في شأن من ليسوا أهل كتاب، ولم يكونوا على ديننا، حرج في أخذ مالهم وجحدها، ولا إثم، {ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون} أنهم كاذبون؛ لأنهم استحلوا ظلم من خالفهم، وقالوا: لم يجعل لهم في التوراة حرمة.
وقيل: عَاملَ اليهودُ رجلاً من قريش، فلما أسلموا تقاضوهم، فقالوا: سقط حقكم حيث تركتم دينكم. وقال صلى الله عليه وسلم: «كَذَبَ أَعْدَاءُ اللّهِ، مَا مِنْ شَيءٍ فِي الجاهِلية إلاّ وَهُو تَحْتَ قَدَمَي، إِلاَّ الأمَانَةَ فإِنهَا مُؤداةٌ إلى الْبَر والفَاجِر».
ثم كذَّبهم الحقّ- تعالى- فقال: {بلى}؛ عليهم في ذلك سبيل، فإن {من أوفى بعهده واتقى} الشرك والمعاصي {فإن الله يحب المتقين} ومن أحبّه الله كيف يباح ماله وتسقط حرمته؟! بل من أسقط حرمته فقد حارب الله ورسوله، أو {من أوفى}، بعهد الله من أهل الكتاب، فآمن بمحمد- عليه الصلاة والسلام- {واتقى} الخيانة، وأدى الأمانة، {فإن الله يحب المتقين}. وأوقع المظهر موقع الضمير العائد إلى من؛ لعمومه، فإن لفظ المتقين عام يصدق برد الودائع وغيره، إشعاراً بأن التقوى ملاك الأمر وسبب الحفظ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد رأينا بعض الفقراء دخل بلد الحقيقة فسقطت من قلبه هيبة الشريعة، فتساهل في أموال الناس وسقطت لديه حرمة العباد، حتى لا تثق به في حفظ مال ولا أهل، فإذا أودعته شيئاً أو قارضته لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً. وهذه زندقة ونزعة إسرائيلية. لا يرضاها أدنى الناس، فما بالك بمن يدعي أنه أعلى الناس، وفي بعض الحكم: كَمَالُ الديانة ترك الخيانة، وأعظم الإفلاس خيانة الناس، وفي الحديث: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُواَ مُنَافقٌ، وإنْ صَلَّى وإن صَامَ وزَعم أنه مُؤْمن، إذ حدَّثّ كَذَبَ، وإذا وعَدَ أَخْلَفَ، وإذا ائتُمِنَ خَانَ» فإذا احتج لنفسه الأمارة، وقال: لا سبيل علينا في متاع العوام، فقد خلع من عنقه ربقة الإسلام، واستحق أن يعلو مفرقه الحُسام. والله تعالى أعلم.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن الذين يشترون بعهد الله} أي: يستبدلون بالوفاء بعهد الله كالإيمان بالرسول- عليه الصلاة والسلم- الذي أخذ على بني إسرائيل في التوراة وبيان صفته، وأداء الأمانة، فكتموا ذلك واستبدلوا به {ثمناً قليلاً}؛ حطاماً فانياً من الدنيا، كانوا يأخذونه من سفلتهم، فخافوا إن بيَّنوا ذلك زال ذلك عنه، وكذلك الأيمان التي أخذها الله عليهم لئن أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم ليؤمنن به ولينصرنه، فنقضوها، خوفاً من زوال رئاستهم، فاستبدلوا بالوفاء بها ثمناً فانياً، {أولئك لا خلاق لهم} أي: لا نصيب لهم، {في الآخرة ولا يكلمهم الله} بما يسرهم، أو بشيء أصلاً، وإنما الملائكة تسألهم، {ولا تنظر إليهم يوم القيامة} نظرة رحمة، بل يعرض عنهم، غضباً عليهم وهواناً بهم، {ولا يزكيهم}؛ لا يطهرهم من ذنوبهم، أو لا يُثني عليهم، {ولهم عذاب أليم} أي: موجع.
قال عكرمة: نزلت في أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وحُيي بن أخطب، وغيرهم من رؤساء اليهود، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم من بيان صفته، فكتموا ذلك وكتبوا غيره، وحلفوا أنه من عند الله، لئلا يفوتهم الرشا من أتباعهم.
وقال الكلبي: إن ناساً من علماء اليهود كانوا ذا حظ من علم التوراة، فأصابتهم سنة، فأتوا كعب بن الأشرف يستميرونه، أي: يطلبون منه الميرة- وهو الطعام-، فقال لهم كعب: هل تعلمون أن هذا الرجل رسول في كتابكم؟ قالوا: نعم، أو ما تعلمه أنت؟ قال: لا، قالوا: فإنا نشهد أنه عبد الله ورسوله، قال كعب: لقد قدمتم عليَّ، وأنا أريد أن أميركم وأكسوكم، فَحَرَمَكُم الله خيراً كثيراً، قالوا: فإنه شُبه لنا، فرُوَيْداً حتى نلقاه، فانطلقوا، فكتبوا صفة غير صفته، ثم أتوا نبيّ الله- عليه الصلاة والسلام- فكلموه، ثم رجعوا إلى كعب، فقالوا: قد كنا نرى أنه رسول الله، فأتيناه فإذا هو ليس بالنعت الذي نُعت لنا، وأخرجوا الذي كتبوه، ففرح كعب، ومارهم. فنزلت الآية. قلت: انظر الطمع، وما يصنع بصاحبه والعياذ بالله.
وقيل: نزلت في رجل أقام سلعته في السوق، وحلف لقد أعطى فيها كذا وكذا، وقيل: نزلت في الأشعث بن قيس، كانت بينه وبين رجل خصومة، فتوجهت اليمين على الرجل، فأراد أن يحلف. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد أخذ الله العهد على الأرواح ألا يعبدوا معه غيره، ولا يميلوا إلى شيء سواه، فكل من مال إلى شيء، أو ركن بالمحبة إلى غير الله، فقد نقض العهد مع الله، فلا نصيب له في مقام المعرفة، ولا تحصل له مشاهدة ولا مكالمة حتى يثوب ويتوجه بكليته إلى مولاه. والله- تعالى أعلم.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13